1 ـ الهجرة الى يثرب :
لكي تتكامل حركة الرسالة وتتحقق النبوّة أهدافها الربّانية المنشودة لابد أن تسدد وتؤيد بقوى الخير وعناصر تملك اليقين المطلق بالعقيدة وتنذر نفسها لتلك العقيدة وتستعد للتضحية على الدوام مع مؤهلات تصونها من الانحراف.
لقد كان علي بن أبي طالب(عليه السلام) ذلك العنصر الفذّ الذي قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا علي إنّ قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي وإنه أوحي إليّ عن ربي أن أهجر دار قومي، فنُم على فراشي والتحف ببردي الحضرمي لتخفي بمبيتك عليهم أثري فما أنت قائل وصانع؟»
فقال علي (عليه السلام): أَوَ تَسلَمنَّ بمبيتي هناك يا نبي الله؟
قال: نعم، فتبسم علي (عليه السلام) ضاحكاً مسروراً وأهوى إلى الأرض ساجداً شاكراً لله تعالى لما أنبأه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من سلامته وقال (عليه السلام): إمض لما اُمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي[1].
وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد منتصف الليل من داره تحيط به العناية الإلهية مخترقاً طوق قوات الشرك المحيطة بداره تاركاً علياً في فراشه.
وكم كانت خيبة أعداء الله حين اقتحموا دار النبيّ (صلى الله عليه وآله) صباحاً شاهرين سيوفهم تفوح منها رائحة الموت، ويفيض الحقد من وجوههم يتقدمهم خالد بن الوليد، فوثب علي(عليه السلام) من مضجعه في شجاعة فائقة فارتد القوم على أدبارهم وتملّكتهم دهشة وذهول وهم يرون كيف خيّب الله سعيهم وأنقذ نبيّه(صلى الله عليه وآله).
وتوسّلت قريش بطغيانها بكل حيلة لتردّ هيبتها الضائعة لعلّها تدرك محمداً (صلى الله عليه وآله) فأرسلت العيون، وركبت في طلبه الصعب والذلول حتّى وضعت مئة ناقة جائزة لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً. وقادهم الدليل الحاذق مقتفياً أثر قدم الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى باب غار ثور ـ حيث كان قد اختبأ فيه النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومعه أبو بكر ـ فانقطع عنه الأثر فقال: ما جاوز محمد ومن معه هذا المكان، إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا في الأرض.
وفي داخل الغار كان أبو بكر قد غلبه خوف كبير وهو يسمع صوت قريش تنادي: اُخرج يا محمد، ويرى أقدامهم تقترب من باب الغار ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «لاتحزن إن الله معنا».
وعادت قريش بخفيّ حنين فهي لم تدرك أن النبي (صلى الله عليه وآله) في الغار إذ رأت العنكبوت قد نسج بيته على باب الغار وعندها بَنت الحمامة عشها وباضت فيه.
وفي المساء التقى علي وهند بن أبي هالة بالنبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن علما بمكانه وقد أدلى النبي (صلى الله عليه وآله) بوصاياه لعلي (عليه السلام) بحفظ ذمته وأداء أمانته ـ إذ كان محمد(صلى الله عليه وآله) مستودع أمانات العرب ـ وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ويلحق به(صلى الله عليه وآله) فقال له مطَمْئِناً: «إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم عليّ، فأدِّ أمانتي على أعين الناس ظاهراً ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما»[2].
وبعد ثلاثة أيام حين عرف النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قد سكن الناس عن طلبه، تحرّك نحو يثرب يغذو السير ولا يعبأ بمشقة مستعيناً بالله واثقاً من نصره.
وحينما وصل منطقة (قباء)[3] تريّث فيها أياماً ينتظر قدوم ابن عمّه علي ابن أبي طالب والفواطم عليه ليدخلوا جميعاً يثرب التي كانت تموج بالفرح والبهجة لقدوم النبي (صلى الله عليه وآله) في حين دخل صاحب النبي ورفيق سفره إلى يثرب تاركاً الرسول(صلى الله عليه وآله) في قباء!
وما إن وصل علي بن أبي طالب(عليه السلام) منهكاً من تعب الطريق ومخاطره ـ حيث كانت قريش قد تعقّبتهم حين علمت بخروجه بالفواطم ـ اعتنقه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبكى رحمةً لما به[4].
وأقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بـ (قباء) عدة أيام وكان أوّل عمل قام به هو كسر الأصنام[5] ثم أسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة فأدركته صلاة الظهر في بطن وادي (رانوناء) فكانت أول صلاة جمعة في الإسلام وخرج مسلمو يثرب بزينتهم وسلاحهم يستقبلون رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويحيطون بركبه وكلٌ يريد أن يتطلع إليه ويملأ عينيه من هذا الرجل الذي آمن به وأحبه[6].
وما كان يمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنزل أحد من المسلمين إلاّ ويأخذ بزمام ناقته ويعرض عليه المقام عنده وهو يقابلهم بطلاقة الوجه والبشر وتجنباً من إحراج أحد منهم كان (صلى الله عليه وآله) يقول: خلّوا الناقة إنّها مأمورة.
وأخيراً بركت الناقة عند مربد يعود لغلامين يتيمين من بني النجار أمام دار أبي أيوب الأنصاري فأسرعت زوجته فأدخلت رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في دارها فنزل عندهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أن تمّ بناء المسجد النبوي وبيته (صلى الله عليه وآله)[7].
وقد غيّر النبيّ (صلى الله عليه وآله) اسم يثرب الى (طيبة)[8] واعتبر هجرته اليها مبدءاً للتأريخ الاسلامي[9].
2 ـ بناء المسجد :
لقد اجتاز النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالمسلمين دائرة بناء الفرد ، وبوصوله الى يثرب شرع في التخطيط لتكوين الدولة التي تحكمها قوانين السماء والشريعة الإسلامية السمحاء ومن ثم بناء الحضارة الإسلامية لتشمل كل الإنسانية في مرحلة ما بعد الدولة.
ومن اُولى العقبات أمام تأسيس الدولة الإسلامية وجود النظام القبلي الذي كان يحكم العلاقات في مجتمع الجزيرة، كما أن ضعف المسلمين كان لابد له من معالجة واقعية، فكان المنطلق بناء المسجد ليكون مكاناً لمهام متعددة، ومركزاً للسلطة المركزية التي تدير شؤون الدولة. وتمّ تعيين الأرض وشرع المسلمون بهمّة وشوق في العمل الجادّ لبناء المسجد وما يتطلبه من مستلزمات، وكان الرسول هو القدوة والأسوة ومنبع الطاقة التي تُحرِّك المسلمين في العمل فشارك بنفسه في حمل الحجارة واللبن، وبينما هو (صلى الله عليه وآله) ذات مرة ينقل حجراً على بطنه استقبله اُسيد بن حضير فقال: يا رسول الله أعطني أحمل عنك قال (صلى الله عليه وآله): لا، اذهب فاحمل غيره.
وتمّ أيضاً بناء دار للرسول (صلى الله عليه وآله) ولأهل بيته ولم يكن البناء ذا كلفة كبيرة فقد كان بسيطاً كحياتهم، ولم ينس النبي (صلى الله عليه وآله) الفقراء الذين لم يجدوا لهم مسكناً يأوون إليه فألحق لهم مكاناً بجانب المسجد[10].
وأصبح المسجد مرتكزاً في حياة المسلمين العبادية والحياتية فعّالاً في بناء الفرد والمجتمع.
3 ـ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
ثم خطا النبي (صلى الله عليه وآله) خطوة اُخرى لإقامة الدولة الجديدة والقضاء على بعض قيم النظام القبلي من دون أن يمس القبيلة بشيء ، مستثمراً حالة التعاطف وحرارة الإيمان التي بدت من المسلمين فجعل أساس العلاقة بين الأفراد رابطة العقيدة والدين متجاوزاً علقة الدم والعصبية، فقال (صلى الله عليه وآله): تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا أخي[11]، وأخذ كل رجل من الأنصار أخاً له من المهاجرين يشاركه الحياة. وبذا طوت المدينة صفحة دامية من تأريخها إذ كانت لا تخلو أيامها من صراع مرير بين الأوس والخزرج يؤججه اليهود بخبثهم ودسائسهم وانفتح على العالم عهد جديد من الحياة الإنسانية الراقية حيث زرع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك عنصر بقاء الاُمة، وفاعليتها الإيمانية.
ابعاد ونتائج التآخي بين المسلمين
البعد الاقتصادي :
1 ـ إعالة المهاجرين وإعادة تأهيلهم اقتصادياً للعودة لممارسة حياتهم الطبيعية.
2 ـ إزالة الفوارق الطبقية في محاولة للقضاء على الفقر.
3 ـ السعي للاستقلال الاقتصادي بعيداً عن مركز الثروة غير المشروعة وقطع أيادي اليهود المرابية.
4 ـ إنجاز مشاريع اقتصادية: زراعية مع تنشيط حركة التجارة ـ من خلال تلاقح فاعلية المهاجرين والأنصار وأفكارهم وترابط جهودهم واستثمار كل الموارد المتاحة في المدينة.
البعد الاجتماعي :
1 ـ القضاء على الأمراض الاجتماعية المتأصلة في المجتمع ومخلفات التناحر القبلي واشاعة روح الحب والود والتآلف لسد الثغرات لئلاّ يستغلّها المتآمرون على الاسلام، وتوفير الجهود والطاقات البشرية لخدمة الاسلام في مراحله اللاحقة.
2 ـ إلغاء النظام القبلي وإحلال النظام والقيم الإسلامية محله في التعامل اليومي.
3 ـ تهيئة المسلمين نفسياً وتربيتهم على التضحية والإيثار للانفتاح على العالم لنشر الرسالة الاسلامية الذي يتطلب مرونة عالية وقيم رفيعة تتوفر في الداعية المسلم.
البعد السياسي :
1 ـ تكوين نسيج مترابط من المسلمين يتحرك مستجيباً لأوامر الرسول والرسالة كفرد واحد في ظرف تعددت فيه الجهات المعادية ولم تتوقف عن دسائسها.
2 ـ تناقل الخبرات التنظيمية ووسائل المقاومة والصمود والتجربة الإيمانية وطرق التحرك وسط المهاجرين والأنصار إذ لم يعش الأنصار تجربة المهاجرين ومحنتهم.
3 ـ بناء الفرد كخطوة من خطوات بناء الدولة وهيكلها الإداري.
4 ـ إشعار المسلمين بالقوّة في الدفاع عن أنفسهم وفق قيم الإسلام بعيداً عن الروح القبلية والعنصرية.
4 ـ معاهدة المدينة :
ولكي ينتقل النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالمسلمين من حالة الصراع والمقاومة إلى مرحلة البناء وتطبيق الشريعة الإسلامية كان لابد من توفير أجواء الأمن والاستقرار ـ ولو نسبياً ـ فالصراع قد يعيق انتشارها في الوسط الجماهيري.
وفي يثرب كانت قوى تنافس المسلمين في الوجود، فاليهود كانوا يشكلون عبئاً كبيراً بقوتهم الاقتصادية وخبثهم السياسي المعروف إضافة إلى عُدّتهم وعددهم الذي لا يستهان به. والمشركون أيضاً قوة أخرى وإن ضعف دورهم بقدوم النبي (صلى الله عليه وآله) والمهاجرين ولكنه لم ينته تماماً ـ فجاملهم النبي (صلى الله عليه وآله) وقابلهم بالحسنى.
وكان لابد للنبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً أن يحتوي وجود المنافقين.
وفي خارج المدينة كانت قريش وسائر القبائل المشركة تمثل تهديداً حقيقياً للكيان الإسلامي الفتيّ وكان على الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يستعد لمواجهتهم ودفع خطرهم.
وهنا تجلت عظمة الرسول (صلى الله عليه وآله) ومقدرته السياسية في التعامل مع القوى المتعددة مُظهراً النوايا الحسنة والطيبة تجاه الآخرين، داعياً جميعهم الى السلام والأمان.
وكتبت معاهدة صلح وتعاون بين المسلمين واليهود لبناء دولة تعود بمركزيتها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يتمتع الجميع فيها بالحقوق الانسانية على السواء.
ويمكن القول بأن الصحيفة كانت بمثابة أوّل مشروع دستوري لبناء دولة اسلامية متحضرة في مجتمع المدينة الذي سوف ينطلق نحو المجتمع العربي ثم المجتمع الإنساني العالمي لتقبل النظام الاسلامي الجديد.
وأهم ما تضمنته الصحيفة هو مايلي:
1 ـ إبراز وجود المجتمع المسلم وإشعار الفرد المسلم بقوة انتمائه إليه.
2 ـ الإبقاء على الوجود القبلي ـ مع تحجيم دوره وصلاحياته ـ لتخفيف العب عن كاهل الدولة، باشراكه في بعض النشاطات الاجتماعية والاستعانة به لحل جملة من المشكلات.
3 ـ التأكيد على حرية العقيدة بالسماح لليهود بالبقاء على ديانتهم وممارسة طقوسهم واعتبارهم مواطنين في الدولة الاسلامية الجديدة.
4 ـ ترسيخ دعائم الأمن في المدينة بجعلها حرماً آمناً لا يجوز القتال فيه.
5 ـ إقرار سيادة الدولة والنظام الإسلامي وإرجاع قرار الفصل في الخصومات الى القيادة الإسلامية المتمثلة في شخص الرسول (صلى الله عليه وآله).
6 ـ توسيع دائرة المجتمع السياسي باعتبار أنّ المسلمين واليهود يتعايشون في نظام سياسي واحد ويدافعون عنه.
7 ـ الحث على إشاعة روح التعاون بين أفراد المجتمع المسلم كي يتجاوز الأزمات التي تعترضه.
5 ـ النفاق وبدايات الاستقرار في المدينة :
اهتم النبيّ (صلى الله عليه وآله) ببناء المجتمع المسلم ومن هنا فرض الهجرة على كل مسلم إلاّ بعذر وذلك لاستقطاب كل الطاقات والكفاءات وسحبها إلى المدينة.
وقد تمتعت المدينة في هذا العهد الجديد بحياة الأمن والاستقرار فأصبح الأمر مزعجاً لسائر القوى التي رفضت دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) أولاً ورأت فيه طرفاً يهدد معتقدها واليوم أصبح كياناً يرتقي بالإنسان نحو الفضائل وقوة تنمو باطّراد لا يصدّه أحد عن نشر رسالته فأسلمت أعداد كبيرة منهم ومضى قسم آخر يخطط للابتعاد عنه أو التحالف معه.
ومن جانب آخر كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يرصد حركة النفاق ومساعي اليهود الحاقدة لتقويض الكيان الاسلامي الفتيّ بتمزيق صفوفه بالتفرقة في ما بين المسلمين.
ولم تمض فترة طويلة حتى دخل الإسلام في كل بيت من بيوت المدينة[12]، واتسق النظام الاجتماعي العام تحت حكم الإسلام وقيادة الرسول (صلى الله عليه وآله).
وفي هذه الفترة شرّعت أحكام الزكاة والصيام وأحكام اقامة الحدود، كما شرع الأذان لإقامة الصلاة وقبل ذلك كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أعدّ منادياً ينادي للصلاة إذا جاء وقتها ، ونزل الوحي الإلهي يعلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) صيغة الأذان[13] فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه بلالاً وعلّمه كيفية الأذان.
6 ـ تحويل القبلة:
وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) طوال فترة تواجده في مكة يتجه في صلاته نحو بيت المقدس ولم يغيّر من اتجاه صلاته بعد هجرته المباركة إلى سبعة عشر شهراً ثم أمره الله أن يتجه في صلاته نحو الكعبة.
وقد أمعن اليهود في عدائهم للدين الإسلامي واستهزائهم بالرسول والرسالة حتّى أنهم كانوا يفخرون على المسلمين بتبعيّتهم لقبلة اليهود فكان هذا يحزن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأصبح ينتظر نزول الوحي الإلهي بتغيير القبلة ، وخرج النبيّ (صلى الله عليه وآله) في جوف الليل يطيل النظر إلى آفاق السماء فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيل (عليه السلام) فأخذ بعضديه وحوّله الى الكعبة وأنزل عليه قوله تعالى: (قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولّيـنّك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام)[14] .
وقد كانت حادثة تحويل القبلة بمثابة اختبار للمسلمين في مدى طاعتهم وانقيادهم لأوامر الرسول (صلى الله عليه وآله)، وتحدّياً لعناد اليهود واستهزائهم وردّاً لكيدهم كما كانت منطلقاً جديداً من منطلقات بناء الشخصية المسلمة[15].
7 ـ بدايات الصراع العسكري :
لقد كانت القوّة هي التي تحكم الناس وتسودهم، وفي هذا الظرف تحرّك النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون ـ بعد الاستقرار النسبي في المدينة ـ ليؤكّد لكل القوى المؤثرة في الجزيرة بل وخارجها ـ كالروم وفارس ـ إصراره على نشر الرسالة الإسلامية وبناء الحضارة وفق تعاليم السماء، وكان للمسلمين من أدوات البناء ما لم يملكه غيرهم، فهم أصحاب عقيدة وفكر وطلاّب حقٍّ وعدل، ومشرّعي سلام وأمان، وأهل سيف وقتال.
وقد توقع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّ قريشاً ومن نصب له العداء سيلجأون لمحاولة استئصال المسلمين ولو بعد حين فكان طلبه من الأنصار في بيعة العقبة الثانية النصرة والقتال كما أن قريشاً هي التي تمادت في التعدي والظلم بل وخرجت تتتبّع النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمسلمين للقضاء عليهم، وفي مكة قد صادرت الأملاك ونهبت البيوت. وكانت الرغبة لدى النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمسلمين ـ المهاجرين خصوصاً ـ أن تدخل قريش في الإسلام طواعية أو أن لا تمضي في غيّها على أقل تقدير.
من هنا بدأ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يبعث (السرايا) وهي عبارة عن مجاميع صغيرة تتحرك لتعلن عن وجودها وعدم استسلامها. وإذا نظرنا إلى عدّتها البسيطة وعددها القليل الذي لا يتجاوز الستين فرداً وكلهم من المهاجرين وليس فيهم من الانصار الذين بايعوا على القتال والنصرة، ندرك أنها لم تكن مرشّحة للقتال وإنّما كانت هذه السرايا وسيلة للضغط على قريش اقتصادياً[16] أيضاً لعلّها تسمع نداء الحق باُذُن صاغية وبقلب مفتوح أو تهادن المسلمين فلا تتعرض لهم لينتشر الإسلام في أطراف اُخرى، وفي الوقت نفسه كان ينبغي إشعار اليهود والمنافقين بقوة الإسلام وهيبة المسلمين.
وهكذا بعد مضيّ سبعة أشهر على الهجرة المباركة انطلقت أول سريّة وكان عدد افرادها ثلاثين رجلاً بقيادة حمزة عم النبي (صلى الله عليه وآله). ثم تلتها سرية اُخرى بقيادة عبيدة بن الحارث. وسرية ثالثة بقيادة سعد بن أبي وقاص.
وخرج النبي (صلى الله عليه وآله) في صفر من العام الثاني للهجرة على رأس مجموعة من أتباعه لاعتراض قوافل قريش ولكن لم يحصل الصدام بين الطرفين في حركته نحو الأبواء وبواط . وفي خروجه الى ذي العشيرة وادَعَ بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة .
وتحرك النبيّ (صلى الله عليه وآله) لردّ الاعتبار ومعاقبة المعتدي حين أغار كرز بن جابر الفهري على أطراف المدينة لسلب الإبل والمواشي فخرج النبي (صلى الله عليه وآله) لملاحقته وخلّف زيد بن حارثة على المدينة[17].
وانطلق النبيّ (صلى الله عليه وآله) في حركته العسكرية من مفهوم الجهاد والتضحية من أجل الدين بدلاً عن مفهوم العصبية والثأر ، محترماً أعراف وتقاليد الصلح والمواعدة وحرمة الأشهر الحرم .
--------------------------------------------------------------------------------
لكي تتكامل حركة الرسالة وتتحقق النبوّة أهدافها الربّانية المنشودة لابد أن تسدد وتؤيد بقوى الخير وعناصر تملك اليقين المطلق بالعقيدة وتنذر نفسها لتلك العقيدة وتستعد للتضحية على الدوام مع مؤهلات تصونها من الانحراف.
لقد كان علي بن أبي طالب(عليه السلام) ذلك العنصر الفذّ الذي قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا علي إنّ قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي وإنه أوحي إليّ عن ربي أن أهجر دار قومي، فنُم على فراشي والتحف ببردي الحضرمي لتخفي بمبيتك عليهم أثري فما أنت قائل وصانع؟»
فقال علي (عليه السلام): أَوَ تَسلَمنَّ بمبيتي هناك يا نبي الله؟
قال: نعم، فتبسم علي (عليه السلام) ضاحكاً مسروراً وأهوى إلى الأرض ساجداً شاكراً لله تعالى لما أنبأه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من سلامته وقال (عليه السلام): إمض لما اُمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي[1].
وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد منتصف الليل من داره تحيط به العناية الإلهية مخترقاً طوق قوات الشرك المحيطة بداره تاركاً علياً في فراشه.
وكم كانت خيبة أعداء الله حين اقتحموا دار النبيّ (صلى الله عليه وآله) صباحاً شاهرين سيوفهم تفوح منها رائحة الموت، ويفيض الحقد من وجوههم يتقدمهم خالد بن الوليد، فوثب علي(عليه السلام) من مضجعه في شجاعة فائقة فارتد القوم على أدبارهم وتملّكتهم دهشة وذهول وهم يرون كيف خيّب الله سعيهم وأنقذ نبيّه(صلى الله عليه وآله).
وتوسّلت قريش بطغيانها بكل حيلة لتردّ هيبتها الضائعة لعلّها تدرك محمداً (صلى الله عليه وآله) فأرسلت العيون، وركبت في طلبه الصعب والذلول حتّى وضعت مئة ناقة جائزة لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً. وقادهم الدليل الحاذق مقتفياً أثر قدم الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى باب غار ثور ـ حيث كان قد اختبأ فيه النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومعه أبو بكر ـ فانقطع عنه الأثر فقال: ما جاوز محمد ومن معه هذا المكان، إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا في الأرض.
وفي داخل الغار كان أبو بكر قد غلبه خوف كبير وهو يسمع صوت قريش تنادي: اُخرج يا محمد، ويرى أقدامهم تقترب من باب الغار ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «لاتحزن إن الله معنا».
وعادت قريش بخفيّ حنين فهي لم تدرك أن النبي (صلى الله عليه وآله) في الغار إذ رأت العنكبوت قد نسج بيته على باب الغار وعندها بَنت الحمامة عشها وباضت فيه.
وفي المساء التقى علي وهند بن أبي هالة بالنبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن علما بمكانه وقد أدلى النبي (صلى الله عليه وآله) بوصاياه لعلي (عليه السلام) بحفظ ذمته وأداء أمانته ـ إذ كان محمد(صلى الله عليه وآله) مستودع أمانات العرب ـ وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ويلحق به(صلى الله عليه وآله) فقال له مطَمْئِناً: «إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم عليّ، فأدِّ أمانتي على أعين الناس ظاهراً ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما»[2].
وبعد ثلاثة أيام حين عرف النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قد سكن الناس عن طلبه، تحرّك نحو يثرب يغذو السير ولا يعبأ بمشقة مستعيناً بالله واثقاً من نصره.
وحينما وصل منطقة (قباء)[3] تريّث فيها أياماً ينتظر قدوم ابن عمّه علي ابن أبي طالب والفواطم عليه ليدخلوا جميعاً يثرب التي كانت تموج بالفرح والبهجة لقدوم النبي (صلى الله عليه وآله) في حين دخل صاحب النبي ورفيق سفره إلى يثرب تاركاً الرسول(صلى الله عليه وآله) في قباء!
وما إن وصل علي بن أبي طالب(عليه السلام) منهكاً من تعب الطريق ومخاطره ـ حيث كانت قريش قد تعقّبتهم حين علمت بخروجه بالفواطم ـ اعتنقه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبكى رحمةً لما به[4].
وأقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بـ (قباء) عدة أيام وكان أوّل عمل قام به هو كسر الأصنام[5] ثم أسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة فأدركته صلاة الظهر في بطن وادي (رانوناء) فكانت أول صلاة جمعة في الإسلام وخرج مسلمو يثرب بزينتهم وسلاحهم يستقبلون رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويحيطون بركبه وكلٌ يريد أن يتطلع إليه ويملأ عينيه من هذا الرجل الذي آمن به وأحبه[6].
وما كان يمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنزل أحد من المسلمين إلاّ ويأخذ بزمام ناقته ويعرض عليه المقام عنده وهو يقابلهم بطلاقة الوجه والبشر وتجنباً من إحراج أحد منهم كان (صلى الله عليه وآله) يقول: خلّوا الناقة إنّها مأمورة.
وأخيراً بركت الناقة عند مربد يعود لغلامين يتيمين من بني النجار أمام دار أبي أيوب الأنصاري فأسرعت زوجته فأدخلت رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في دارها فنزل عندهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أن تمّ بناء المسجد النبوي وبيته (صلى الله عليه وآله)[7].
وقد غيّر النبيّ (صلى الله عليه وآله) اسم يثرب الى (طيبة)[8] واعتبر هجرته اليها مبدءاً للتأريخ الاسلامي[9].
2 ـ بناء المسجد :
لقد اجتاز النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالمسلمين دائرة بناء الفرد ، وبوصوله الى يثرب شرع في التخطيط لتكوين الدولة التي تحكمها قوانين السماء والشريعة الإسلامية السمحاء ومن ثم بناء الحضارة الإسلامية لتشمل كل الإنسانية في مرحلة ما بعد الدولة.
ومن اُولى العقبات أمام تأسيس الدولة الإسلامية وجود النظام القبلي الذي كان يحكم العلاقات في مجتمع الجزيرة، كما أن ضعف المسلمين كان لابد له من معالجة واقعية، فكان المنطلق بناء المسجد ليكون مكاناً لمهام متعددة، ومركزاً للسلطة المركزية التي تدير شؤون الدولة. وتمّ تعيين الأرض وشرع المسلمون بهمّة وشوق في العمل الجادّ لبناء المسجد وما يتطلبه من مستلزمات، وكان الرسول هو القدوة والأسوة ومنبع الطاقة التي تُحرِّك المسلمين في العمل فشارك بنفسه في حمل الحجارة واللبن، وبينما هو (صلى الله عليه وآله) ذات مرة ينقل حجراً على بطنه استقبله اُسيد بن حضير فقال: يا رسول الله أعطني أحمل عنك قال (صلى الله عليه وآله): لا، اذهب فاحمل غيره.
وتمّ أيضاً بناء دار للرسول (صلى الله عليه وآله) ولأهل بيته ولم يكن البناء ذا كلفة كبيرة فقد كان بسيطاً كحياتهم، ولم ينس النبي (صلى الله عليه وآله) الفقراء الذين لم يجدوا لهم مسكناً يأوون إليه فألحق لهم مكاناً بجانب المسجد[10].
وأصبح المسجد مرتكزاً في حياة المسلمين العبادية والحياتية فعّالاً في بناء الفرد والمجتمع.
3 ـ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
ثم خطا النبي (صلى الله عليه وآله) خطوة اُخرى لإقامة الدولة الجديدة والقضاء على بعض قيم النظام القبلي من دون أن يمس القبيلة بشيء ، مستثمراً حالة التعاطف وحرارة الإيمان التي بدت من المسلمين فجعل أساس العلاقة بين الأفراد رابطة العقيدة والدين متجاوزاً علقة الدم والعصبية، فقال (صلى الله عليه وآله): تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا أخي[11]، وأخذ كل رجل من الأنصار أخاً له من المهاجرين يشاركه الحياة. وبذا طوت المدينة صفحة دامية من تأريخها إذ كانت لا تخلو أيامها من صراع مرير بين الأوس والخزرج يؤججه اليهود بخبثهم ودسائسهم وانفتح على العالم عهد جديد من الحياة الإنسانية الراقية حيث زرع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك عنصر بقاء الاُمة، وفاعليتها الإيمانية.
ابعاد ونتائج التآخي بين المسلمين
البعد الاقتصادي :
1 ـ إعالة المهاجرين وإعادة تأهيلهم اقتصادياً للعودة لممارسة حياتهم الطبيعية.
2 ـ إزالة الفوارق الطبقية في محاولة للقضاء على الفقر.
3 ـ السعي للاستقلال الاقتصادي بعيداً عن مركز الثروة غير المشروعة وقطع أيادي اليهود المرابية.
4 ـ إنجاز مشاريع اقتصادية: زراعية مع تنشيط حركة التجارة ـ من خلال تلاقح فاعلية المهاجرين والأنصار وأفكارهم وترابط جهودهم واستثمار كل الموارد المتاحة في المدينة.
البعد الاجتماعي :
1 ـ القضاء على الأمراض الاجتماعية المتأصلة في المجتمع ومخلفات التناحر القبلي واشاعة روح الحب والود والتآلف لسد الثغرات لئلاّ يستغلّها المتآمرون على الاسلام، وتوفير الجهود والطاقات البشرية لخدمة الاسلام في مراحله اللاحقة.
2 ـ إلغاء النظام القبلي وإحلال النظام والقيم الإسلامية محله في التعامل اليومي.
3 ـ تهيئة المسلمين نفسياً وتربيتهم على التضحية والإيثار للانفتاح على العالم لنشر الرسالة الاسلامية الذي يتطلب مرونة عالية وقيم رفيعة تتوفر في الداعية المسلم.
البعد السياسي :
1 ـ تكوين نسيج مترابط من المسلمين يتحرك مستجيباً لأوامر الرسول والرسالة كفرد واحد في ظرف تعددت فيه الجهات المعادية ولم تتوقف عن دسائسها.
2 ـ تناقل الخبرات التنظيمية ووسائل المقاومة والصمود والتجربة الإيمانية وطرق التحرك وسط المهاجرين والأنصار إذ لم يعش الأنصار تجربة المهاجرين ومحنتهم.
3 ـ بناء الفرد كخطوة من خطوات بناء الدولة وهيكلها الإداري.
4 ـ إشعار المسلمين بالقوّة في الدفاع عن أنفسهم وفق قيم الإسلام بعيداً عن الروح القبلية والعنصرية.
4 ـ معاهدة المدينة :
ولكي ينتقل النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالمسلمين من حالة الصراع والمقاومة إلى مرحلة البناء وتطبيق الشريعة الإسلامية كان لابد من توفير أجواء الأمن والاستقرار ـ ولو نسبياً ـ فالصراع قد يعيق انتشارها في الوسط الجماهيري.
وفي يثرب كانت قوى تنافس المسلمين في الوجود، فاليهود كانوا يشكلون عبئاً كبيراً بقوتهم الاقتصادية وخبثهم السياسي المعروف إضافة إلى عُدّتهم وعددهم الذي لا يستهان به. والمشركون أيضاً قوة أخرى وإن ضعف دورهم بقدوم النبي (صلى الله عليه وآله) والمهاجرين ولكنه لم ينته تماماً ـ فجاملهم النبي (صلى الله عليه وآله) وقابلهم بالحسنى.
وكان لابد للنبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً أن يحتوي وجود المنافقين.
وفي خارج المدينة كانت قريش وسائر القبائل المشركة تمثل تهديداً حقيقياً للكيان الإسلامي الفتيّ وكان على الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يستعد لمواجهتهم ودفع خطرهم.
وهنا تجلت عظمة الرسول (صلى الله عليه وآله) ومقدرته السياسية في التعامل مع القوى المتعددة مُظهراً النوايا الحسنة والطيبة تجاه الآخرين، داعياً جميعهم الى السلام والأمان.
وكتبت معاهدة صلح وتعاون بين المسلمين واليهود لبناء دولة تعود بمركزيتها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يتمتع الجميع فيها بالحقوق الانسانية على السواء.
ويمكن القول بأن الصحيفة كانت بمثابة أوّل مشروع دستوري لبناء دولة اسلامية متحضرة في مجتمع المدينة الذي سوف ينطلق نحو المجتمع العربي ثم المجتمع الإنساني العالمي لتقبل النظام الاسلامي الجديد.
وأهم ما تضمنته الصحيفة هو مايلي:
1 ـ إبراز وجود المجتمع المسلم وإشعار الفرد المسلم بقوة انتمائه إليه.
2 ـ الإبقاء على الوجود القبلي ـ مع تحجيم دوره وصلاحياته ـ لتخفيف العب عن كاهل الدولة، باشراكه في بعض النشاطات الاجتماعية والاستعانة به لحل جملة من المشكلات.
3 ـ التأكيد على حرية العقيدة بالسماح لليهود بالبقاء على ديانتهم وممارسة طقوسهم واعتبارهم مواطنين في الدولة الاسلامية الجديدة.
4 ـ ترسيخ دعائم الأمن في المدينة بجعلها حرماً آمناً لا يجوز القتال فيه.
5 ـ إقرار سيادة الدولة والنظام الإسلامي وإرجاع قرار الفصل في الخصومات الى القيادة الإسلامية المتمثلة في شخص الرسول (صلى الله عليه وآله).
6 ـ توسيع دائرة المجتمع السياسي باعتبار أنّ المسلمين واليهود يتعايشون في نظام سياسي واحد ويدافعون عنه.
7 ـ الحث على إشاعة روح التعاون بين أفراد المجتمع المسلم كي يتجاوز الأزمات التي تعترضه.
5 ـ النفاق وبدايات الاستقرار في المدينة :
اهتم النبيّ (صلى الله عليه وآله) ببناء المجتمع المسلم ومن هنا فرض الهجرة على كل مسلم إلاّ بعذر وذلك لاستقطاب كل الطاقات والكفاءات وسحبها إلى المدينة.
وقد تمتعت المدينة في هذا العهد الجديد بحياة الأمن والاستقرار فأصبح الأمر مزعجاً لسائر القوى التي رفضت دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) أولاً ورأت فيه طرفاً يهدد معتقدها واليوم أصبح كياناً يرتقي بالإنسان نحو الفضائل وقوة تنمو باطّراد لا يصدّه أحد عن نشر رسالته فأسلمت أعداد كبيرة منهم ومضى قسم آخر يخطط للابتعاد عنه أو التحالف معه.
ومن جانب آخر كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يرصد حركة النفاق ومساعي اليهود الحاقدة لتقويض الكيان الاسلامي الفتيّ بتمزيق صفوفه بالتفرقة في ما بين المسلمين.
ولم تمض فترة طويلة حتى دخل الإسلام في كل بيت من بيوت المدينة[12]، واتسق النظام الاجتماعي العام تحت حكم الإسلام وقيادة الرسول (صلى الله عليه وآله).
وفي هذه الفترة شرّعت أحكام الزكاة والصيام وأحكام اقامة الحدود، كما شرع الأذان لإقامة الصلاة وقبل ذلك كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أعدّ منادياً ينادي للصلاة إذا جاء وقتها ، ونزل الوحي الإلهي يعلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) صيغة الأذان[13] فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه بلالاً وعلّمه كيفية الأذان.
6 ـ تحويل القبلة:
وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) طوال فترة تواجده في مكة يتجه في صلاته نحو بيت المقدس ولم يغيّر من اتجاه صلاته بعد هجرته المباركة إلى سبعة عشر شهراً ثم أمره الله أن يتجه في صلاته نحو الكعبة.
وقد أمعن اليهود في عدائهم للدين الإسلامي واستهزائهم بالرسول والرسالة حتّى أنهم كانوا يفخرون على المسلمين بتبعيّتهم لقبلة اليهود فكان هذا يحزن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأصبح ينتظر نزول الوحي الإلهي بتغيير القبلة ، وخرج النبيّ (صلى الله عليه وآله) في جوف الليل يطيل النظر إلى آفاق السماء فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيل (عليه السلام) فأخذ بعضديه وحوّله الى الكعبة وأنزل عليه قوله تعالى: (قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولّيـنّك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام)[14] .
وقد كانت حادثة تحويل القبلة بمثابة اختبار للمسلمين في مدى طاعتهم وانقيادهم لأوامر الرسول (صلى الله عليه وآله)، وتحدّياً لعناد اليهود واستهزائهم وردّاً لكيدهم كما كانت منطلقاً جديداً من منطلقات بناء الشخصية المسلمة[15].
7 ـ بدايات الصراع العسكري :
لقد كانت القوّة هي التي تحكم الناس وتسودهم، وفي هذا الظرف تحرّك النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون ـ بعد الاستقرار النسبي في المدينة ـ ليؤكّد لكل القوى المؤثرة في الجزيرة بل وخارجها ـ كالروم وفارس ـ إصراره على نشر الرسالة الإسلامية وبناء الحضارة وفق تعاليم السماء، وكان للمسلمين من أدوات البناء ما لم يملكه غيرهم، فهم أصحاب عقيدة وفكر وطلاّب حقٍّ وعدل، ومشرّعي سلام وأمان، وأهل سيف وقتال.
وقد توقع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّ قريشاً ومن نصب له العداء سيلجأون لمحاولة استئصال المسلمين ولو بعد حين فكان طلبه من الأنصار في بيعة العقبة الثانية النصرة والقتال كما أن قريشاً هي التي تمادت في التعدي والظلم بل وخرجت تتتبّع النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمسلمين للقضاء عليهم، وفي مكة قد صادرت الأملاك ونهبت البيوت. وكانت الرغبة لدى النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمسلمين ـ المهاجرين خصوصاً ـ أن تدخل قريش في الإسلام طواعية أو أن لا تمضي في غيّها على أقل تقدير.
من هنا بدأ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يبعث (السرايا) وهي عبارة عن مجاميع صغيرة تتحرك لتعلن عن وجودها وعدم استسلامها. وإذا نظرنا إلى عدّتها البسيطة وعددها القليل الذي لا يتجاوز الستين فرداً وكلهم من المهاجرين وليس فيهم من الانصار الذين بايعوا على القتال والنصرة، ندرك أنها لم تكن مرشّحة للقتال وإنّما كانت هذه السرايا وسيلة للضغط على قريش اقتصادياً[16] أيضاً لعلّها تسمع نداء الحق باُذُن صاغية وبقلب مفتوح أو تهادن المسلمين فلا تتعرض لهم لينتشر الإسلام في أطراف اُخرى، وفي الوقت نفسه كان ينبغي إشعار اليهود والمنافقين بقوة الإسلام وهيبة المسلمين.
وهكذا بعد مضيّ سبعة أشهر على الهجرة المباركة انطلقت أول سريّة وكان عدد افرادها ثلاثين رجلاً بقيادة حمزة عم النبي (صلى الله عليه وآله). ثم تلتها سرية اُخرى بقيادة عبيدة بن الحارث. وسرية ثالثة بقيادة سعد بن أبي وقاص.
وخرج النبي (صلى الله عليه وآله) في صفر من العام الثاني للهجرة على رأس مجموعة من أتباعه لاعتراض قوافل قريش ولكن لم يحصل الصدام بين الطرفين في حركته نحو الأبواء وبواط . وفي خروجه الى ذي العشيرة وادَعَ بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة .
وتحرك النبيّ (صلى الله عليه وآله) لردّ الاعتبار ومعاقبة المعتدي حين أغار كرز بن جابر الفهري على أطراف المدينة لسلب الإبل والمواشي فخرج النبي (صلى الله عليه وآله) لملاحقته وخلّف زيد بن حارثة على المدينة[17].
وانطلق النبيّ (صلى الله عليه وآله) في حركته العسكرية من مفهوم الجهاد والتضحية من أجل الدين بدلاً عن مفهوم العصبية والثأر ، محترماً أعراف وتقاليد الصلح والمواعدة وحرمة الأشهر الحرم .
--------------------------------------------------------------------------------