نشأة الخراج فى العصر الإسلامي
اختلف مدلول مصطلح الخراج فى كتابات مؤرخى وفقهاء العصر الإسلامى، بل شمل الاختلاف أغلب استخدامات المعاصرين لهذا المصطلح. فقد أشير به أحيانا إلى دخل الخلافة ككل، أو دخلها من إحدى ولاياتها، واستخدمه أبو يوسف بين دفتى كتابه الشهير [1]، للإشارة إلى نظام ضريبى معين يفرض على أرض زراعية تسمى أرض الخراج، والتى تعتبر من الناحية الفقهية أرضا موقوفه على بيت المال ومملوكة للأمة الإسلامية كلها[2] ( وفى إطار هذا التعريف الأخير للمصلطح، يتناول هذا المقال موضوع الخراج).
والخراج، وفقا لهذا التعريف، قد شكل لب النظام الاقتصادى فى العصر الإسلامى، وخاصة فى عهوده المزدهرة .. حيث أنه كان النظام الرئيسى فى مجال الإنتاج الزراعى الذى كان بدوره أهم مجالات الإنتاج فى العصر الوسيط برمته . [3]يترتب على ذلك بالضرورة أن نظام الخراج كان أهم النظم الاقتصادية إطلاقا من حيث تشكيل معالم الحياة اليومية وتحديد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للغالبية العظمى من السكان المعاصرين .. وبالتالى أسهم بمختلف الطرق المباشرة وغير المباشرة فى تشكيل مجمل النظم المعاصرة الأخرى.
على أن التأريخ لنظام الخراج – على أهميته الكبرى – ُيعد مشكلة عويصة لا زالت تعترض الباحثين، نظرا لقلة اهتمام المصادر التاريخية به، واقتصار تناوله فى أغلب الاحيان على الناحية الفقهية، دون العناية بالنظم العينية لجبايته وتحديد مقداره واوجه صرفه .. وما طرأ على كل ذلك من تغييرات عبر الزمن[4]. ويمكن تتبع نشأة نظام الخراج فى عهد عمر ابن الخطاب وإرهاصاته فى عهد الرسول عن طريق كتاب البلاذرى؛ فتوح البلدان. والمقال مدين إلى أبعد الحدود للمعلومات التى أوردها ابن عبد الحكم : فتوح مصر والمغرب، فى الصفحات التى خصصها لموضوع الخراج فى مصر. كذلك أورد الجهشيارى فى كتابه : الوزراء والكتاب مادة تاريخية حول دواوين الخراج، تتميز بعموميتها وعدم تعرضها للتفاصيل والنظم العينية لدواوين الخراج. ولعل كتاب أبو يوسف الذى سبقت الإشارة إليه. يمكن أن يعد من أهم الكتب الفقهية فى أحكام الخراج، نظرا لمنزلة مؤلفه عند الخليفة العباسى "الرشيد" ونظرا لأن الكتاب قد ُصف بناء على طلب الخليفة. وتتركز أهمية كتاب ضياء الدين الريس حول الخراج والنظم المالية – بجانب جهده المحمود فى تحقيق المقاييس الإسلامية – فى جمعه لمعلومات تاريخية مختلفة تتعلق بالأوضاع السياسية والاقتصادية تمس من نواحى متعددة نظم الخراج. ولكن الكتاب فى مجموعة لم يوفق فى تحقيق الغرض الذى يدل عليه عنوانه.
وفى حدود هذه المصادر، سوف يتناول المقال مواضيعا خمسة رئيسية، وهى إرهاصات ونشأة نظام الخراج، وأسسه الاقتصادية، ونظم جبايته، ثم علاقات نظام الخراج بكل من حائزى أرض الخراج والدولة. كذلك أفردنا حيزا لنشأة نظام الإقطاع وطبيعته وعلاقته بنظام الخراج.
***********************
لم يحل إدراك المعاصرين لأسبقية نظام الخراج تاريخيا – فى دولة الفرس على الأقل[5] – على الفتوحات الإسلامية، دون تناولهم له كفرع من فروع الفقه الدينى الخاص بالمعاملات. وفى محاولتهم تكييف نظام الخراج تكييفا فقهيا، رجعوا إلى سنة الرسول وسابقات الخلفاء الراشدين. ورغم اختلاف الأهداف، لا يسعنا سوى أن نقتفى خطاهم على نفس الطريق.
كان النبى إذا فتح أرضا بإسلام أهلها دون قتال، يترك لهم الاحتفاظ بالأرض[6] ، ويفرض عليها ضريبة العشر إذا كانت تسقى بالراحة أو نصف العشر إذا كانت تسقى بآلات الرفع. [7]أما إذا فتح النبى أرضا بصلح مع أهلها من أهل الكتاب، وحتى إذا سبق الصلح حصار حربى، كانت الأرض تعد ملكا له بصفته الدينية والسياسية، وليس بصفته الشخصية. وكان الرسول أما أن يطرد أهل هذه الأرض – كأحد شروط الصلح – ويتولى زراعتها بنفسه[8] ، وخاصة إذا كانت الأرض واقعة فى متناول جماعة المسلمين والرسول، بحيث يمكن العناية بالأرض دون التخلى عن الإقامة فى المدينة ، وهى حصن الدعوة ؛ وإما أن يقر أهلها على زراعة الأرض ، فيشتمل الصلح على مقاسمة الرسول إياهم نتاج الأرض[9] ، ويسمى نصيب الرسول من هذا النتاج خراجا. كذلك كان للرسول مطلق الحرية – فى حدود الدين – فى التصرف فى هذه الأرض ومحصولاتها، فكان ينفق منها على أهله أو يقطع بعضها للمهاجرين أو غيرهم، أو ينفق من عائدها على الفقراء[10]. وتجدر الإشارة إلى أن الرسول، لأنه لا يورث، تنتقل ملكيته هذه من بعده إلى جماعة المسلمين [11]. فليست ملكيته للأرض إذن سوى شكل لملكية الدولة الإسلامية للأرض.
أما الأراضى التى فتحها الرسول عنوة، مثل أرض خيبر وأرض بنى قريظة، فكان يقسم أربعة أخماسها على الفاتحين، ويحتفظ بالخمس الباقى طبقا لحكم القرآن[12]. وإلى تلك السابقات استند الذين عارضوا ما فعله عمر بن الخطاب من وقف الأراضى المفتوحة على بيت المال مطالبين بتقسيمها[13]. ولكن يلاحظ أن تقسيم مثل هذه الأراضى قد اتخذ أحيانا منحى صوريا. وآية ذلك أن الرسول عندما فتح خيبر و وادى القرى، ترك هذه الأرض لأهلها مقابل شطر من نتاجها[14]. فالأرجح هنا أن هذا الشطر هو الذى كان يقسم وليس الأرض فى أيدى أهلها حتى لا تتشتت قوة المسلمين فى خارج المدينة. ومما يرجح هذا التعليل، أن الرسول قد قسم أرض بنى قريظة تقسيما فعليا بين الفاتحين، إذ أن هذه الأرض واقعة ضمن نطاق المدينة.
حين تم فتح الشام والسواد (العراق) فى عهد عمر بن الخطاب، قام جدل واسع حول كيفية التصرف فى هذه الأرض التى افتتحت عنوة. فقد رفض عمر تقسيم الأرض على المقاتلين كما طالب بلال وآخرون، مستندين إلى نص القرآن وسنة الرسول. واشتد الخلاف بين العشرة المبشرين بالجنة وبين المهاجرين وبعضهم البعض، فلجأ عمر إزاء ذلك إلى استشارة زعماء الأنصار لحسم الخلاف. كانت حجة عمر بن الخطاب أن هذا الفيىء ملك لكل المسلمين، فإذا ما قسمت الأرض، لن يبقى شئ للأجيال القادمة من غير أبناء الفاتحين، كما أن التقسيم سيستتبع تفرغ الفاتحين لإدارة أراضيهم الشاسعة، وبالتالى هجر الأمصار والثغور، بالإضافة إلى أن حرمان بيت المال من خراج هذه الأرض بتقسيمها، سيعجز الخلافة عن الإنفاق على الجنود لسد الثغور. وهكذا اقتنع زعماء الأنصار بأن العدول عن تطبيق نظام الخراج على الأرض المفتوحة يهدد بإستعادة أعداء الدولة الناشئة لهذه البلدان[15]. وهذا يعنى أن عمر بن الخطاب قد جعل قضية الإسلام ومركزية الدولة ونظام الخراج والعصبية العربية قضية واحدة. وتدل الحوادث على أن عمرا كان حريصا كل الحرص على توفير أسباب الحفاظ على تماسك العصبية العربية وإبقائها تحت سيطرة الخلافة فى نفس الوقت، فعمل على أن تقام الأمصار حيث يمكن أن ترعى الإبل[16] ، بقصد إبقاء نمط معيشة سكانها العرب البدوى – الرعوى – الحربى المنفصل عن نمط معيشة سكان البلاد المفتوحة، كما كان حريصا على توفير عطاء الجند وأسرهم [17]، حتى يظلوا معتمدين فى معاشهم على الدولة وحتى لا يتحولوا للزراعة والاستقرار. أما مبدأ تقسيم الفيىء الذى ورد فى القرآن فقد قصره عمر على ما يحرزه المقاتلون فى المعارك من مال أو سلاح[18]. كذلك طبق عمر نظام الخراج فى مصر[19]. وترتب على ما فعله عمر اعتماد نظام الدواوين الخاصة بالخراج، والتى ورثها العرب عن البلاد المفتوحة[20]، وإنشاء ديوان العطاء.
ترتب على تزايد أهمية نظام الخراج أن وضع الفقه الإسلامى على عاتقه مهمة التكيف مع هذا الواقع والتشريع له. ورغم المعاناة والحيرة التى لقيها الفقهاء[21] ، إلا أنهم أنجزوا مهمتهم. وصارت تشريعاتهم الاقتصادية تنزع فى الأغلب الأعم إلى الحفاظ على قوة نظام الخراج وبقائه، مقتفين أثر عمر بن الخطاب. فقد منع عمر تحويل أرض الخراج إلى أرض عشر إذا أسلم أهلها، واقتفى أثره الفقهاء واكتفوا بإلغاء الجزية على الرؤوس متعللين بأن لحظة الفتح تحديدا هى التى تحدد ما إذا كانت الأرض أرض عشر أم أرض خراج [22]. بل ويصل الأمر بأبى يوسف إلى حد منع الخلفاء من أخذ أرض الخراج من أهل الخراج[23]. وحتى بالنسبة للأراضى البور الواقعة ضمن أرض الخراج، أى فى نطاقها، يفرض الخراج عليها إذا ما استصلحت وعمرت [24]. وما من شك أن مجمل هذه الأحكام تضع قيودا متعددة على الملكية الخاصة للأرض الزراعية[25]. والأساس القانونى لحق الملكية الخاصة للأرض، ألا وهو حق وضع اليد، جرى حصره إلى حد كبير بالحكم الخاص بفرض الخراج على الأرض المستصلحة الواقعة ضمن أرض الخراج.
ان مقولة غياب الملكية الخاصة للأرض فى نطاق أرض الخراج. ليست مجرد مقولة نظرية مستندة من الفقه. فإذا ما بحثنا فى طبيعة الخراج نفسه لوجدناه مختلفا تماما عن الضريبة والزكاة. فيتضح من بعض ما أورده أبو يوسف فى كتابه[26]، أن الخراج أكبر من العشر بل والعشرين. وهذا ليس مجرد فارق كمى بل هو فارق كيفى، إذ أن ضخامة الخراج المفروض على قطعة الأرض تجعله ما يمكن أن نسميه بمصطلحات علم الاقتصاد فائض الإنتاج الاجتماعى، أى يكافئ بلغة عصرنا الضريبة والريع والربح معا. كما أن حائز أرض الخراج لا يحق له أن يمتنع عن زراعتها [27]، لأنها أرض ملك للدولة الإسلامية. ويؤكد ذلك ما ذكره ابن عبد الحكم عن نظام فرض الخراج فى مصر [28]، إذ كان يفرض على القرى جملة تبعا لمساحة كل قرية من الأرض العامرة، وتقسم هذه المساحة على الأسر فى القرية بحسب قدرتها على الفلاحة، أى بحسب ما تحوزه من قوة العمل. وما يفيض من أرض القرية مما لا يرغب سكانها فى فلاحته كان يقسم عليهم ويلزمون بزراعته. هذه الحقائق تحول دون قبول ما يذكره أبو يوسف، عن حق حائز أرض الخراج فى توريثها و بيعها[29] ، فنظرا لطبيعة الخراج باعتباره فائض الإنتاج الاجتماعى، ونظرا لكل ما سبق ، فقول أن ما يتوارث هنا هو حق الحيازة أو حق المنفعة ، وهى وراثة مشروطة بالقدرة على فلاحة الأرض وتعميرها. كذلك لا تستقيم فكرة حيازة أهل الخراج لحق الرقبة مع ما يذكره أبو يوسف عن وجوه المزارعة[30] ففيها : يكون الخراج على صاحب الأرض، أى حائزها، ويحصل الزارع على المحصول، ذلك على عكس أرض العشر بحيث يكون العشر على صاحب الزرع أو على الاثنين معا. فواضح هنا أن القيام على أرض الخراج وحيازتها واجب على الحائز أكثر منه حق له. كما يتضح أن كافة أحكام أرض الخراج مكيفة بحيث تضمن الدولة حقها فى خراج الأرض[31].
إلام يستند حق الدولة فى الحصول على فائض الإنتاج من أرض الخراج ؟ إذا ما طرحنا جانبا الأحكام الفقهية وما تقدمه من تبريرات لهذا مما سبق ذكره، سنجد الأساس الحقيقى لنظام الخراج فى نظام الرى. فالحكومة تعد مسئولة عن صيانة نظام الرى من حفر وتعميق للأنهار والترع والمصارف الرئيسية وبناء الجسور لحماية الأرض من الفيضان وتتكفل بنفقة كل ذلك فضلا عن أن جهاز الدولة هو الأداة الرئيسية والضرورية لإنجاز هذه الأعمال العامة[32]. أيضا، تعد الدولة مسئولة من حيث الإشراف والتخطيط بالنسبة لأعمال الرى المقامة على نطاق أصغر من هذا، بحيث لا تتسبب فى الإضرار بنظام الرى النهرى فى مجموعه [33]. مثل هذا الدور الجوهرى الذى تلعبه الدولة فى صيانة الشروط الأساسية للنشاط الزراعى، وهو النشاط الاقتصادى الرئيسى، يستدعى بالضرورة هيمنتها على الموارد المالية، كما يعطيها الفرصة فى استغلال سلطاتها الجوهرية الناشئة عن دورها هذا فى مد سلطانها إلى كافة المجالات الأخرى.
كانت الدولة تجبى الخراج عن طريق موظفين ينتظمون فى جهاز يسمى ديوان الخراج يرأسه والى الخراج.[34] وقد عرفت ثلاثة نظم لجباية الخراج. كان عمر بن الخطاب قد جبى خراج السواد طبقا لنظام المساحة، الذى كانت دولة فارس قد أخذت به بدءا من عهد كسرى أنو شروان. [35]وهو نظام يقوم على مسح الأرض وإحصاء الناس[36]، وتحديد الحيازات وما فيها من مزروعات فى سجلات، بحيث تتحدد قيمة الخراج تبعا لمساحة الأرض وجودتها ومدى بعدها عن السوق ونوع المحصول المزروع [37]. وفى عهد المهدى تحولت الخلافة العباسية إلى نظام المقاسمة، نظرا لشكوى الحائزين من إنخفاض أسعار المحصولات بحيث صاروا عاجزين عن أداء الخراج. ويقضى نظام المقاسمة بأن تحصل الدولة على نسبة تتراوح بين النصف والربع من المحصول تبعا لطريقة الرى[38]. لا شك أن نظام المقاسمة يحتاج إلى مسح الأرض لتحديد الحيازات ووسيلة الرى ونوع المحصول. ويشدد أبو يوسف[39] على أهمية نظام المساحة، نظرا لأنها تمنع تعدى الأقوياء على حق الضعفاء، ويترتب على ذلك العجز عن أداء الخراج، فضلا عن المساس بهيبة الدولة. ونجاح أى من هذين النظامين يرتبط أشد الأرتباط بألا يتطرق الفساد إلى جهاز الدولة وألا يتحول ولاء موظفيها، وخاصة كبارهم ممن يتولون الولاية العامة أو ولاية الخراج. لذلك ينصح أبو يوسف[40] بألا يتولى ولاية الخراج إلا من كانوا من أهل الصلاح والدين والأمانة، وأن تصرف حقوق الولاة والجنود من قبل ديوان العطاء فلا تكون لهم علاقة مباشرة بجباية الخراج من الولاية[41] ، مما يجعل من الصعب على الحاميات العسكرية الانفصال بالولاية. ويبدو أنه لنفس السبب، فصل سليمان بن عبد الملك منصب والى الخراج عن الولاية العامة فى مصر، واقتفى أثره من تلاه من خلفاء الدولتين الأموية والعباسية فى أغلب الحالات. وحرصا على عدم تفشى الفساد الإدارى، كان بعض الخلفاء الأقوياء، حين يلمس كسرا فى الخراج بسبب الظلم، يرسل من قبله من يفتش على أعمال الولاء ويقتص للرعية منهم [42].
أما النظام الثالث لجباية الخراج، فهو نظام القبالة. وفيه تعهد الحكومة – عن طريق مزاد علنى فى أغلب الأحوال – إلى أحد الأشخاص بجباية خراج دائرة أو ولاية معينة فيصير مسئولا عن توريد المبلغ الذى تعهد بدفعه للحكومة، وله أن يحصل على ما يفيض عن ذلك من نتاج الجباية. وهذا النظام من مضاره أنه يضع الحائزين تحت رحمة المتقبل الذى يلجأ عادة لاعتصار أهل الخراج من أجل زيادة أرباحه، مما يترتب عليه فرار الحائزين من الأرض أو لجوئهم للتخريب . والأرجح أن الدولة ما كانت تلجأ إلى هذا النظام إلا إذا ما تفشى الفساد فى الإدارة بنهب مستحقاتها عن طريق الموظفين.
ومع أن الدولة هى التى تحدد نظام جباية الخراج ومقداره، إلا أن سلطتها فى هذا المجال مقيدة من الناحية الموضوعية بمصلحتها فى الحفاظ لحائزى أرض الخراج على الحد الأدنى من الدخل اللازم لمعاشهم وأسرهم، وإلا "إنكسر الخراج [43] بتعبير أبو يوسف. بالإضافة إلى حماية جهاز الدولة من الفساد الإدارى ومركزة نظام الخراج، مما ذكر سابقا ، يشدد أبو يوسف على ضرورة توحيد معايير الخراج و أن يقتسم الموظفون المحصول مع الزارع مرة واحدة بعد التذرية والدرس وأن يتم الدرس بأسرع ما يمكن حتى يتاح للفلاحين أخذ نصيبهم بسرعة فلا يصابوا بالعوز أو اضراره [44]. رغم كل هذه الإجراءات كان تعذيب أهل الخراج، وبأبشع الوسائل ، شيئا معتادا فى هذا العصر[45].
والواقع أن كل هذه الإجراءات لم تستهدف بالدرجة الأولى – إذا كانت تستهدف أصلا – تحقيق العدل أو الرحمة بالرعية، وإنما كان هدفها الأساسى الحفاظ على نظام الخراج ومقداره. لذلك نجد أبو يوسف يشدد فى كل نصائحه للخليفة الرشيد على أضرار مخالفة هذه النصائح بمقدار الخراج. وعمرو بن العاص الذى عاب على خلفه فى ولاية مصر تحميل أهل الخراج فوق ما يحتملون يحدد وضع القبط الاجتماعى بأنهم خزنة العرب[46] ، ويشبه أرض مصر بالبقرة الحلوب[47] وحليبها الخراج. كذلك أمر عمر بن الخطاب بأن "يختم فى رقاب أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ولا يدعوهم يتشبهون بالمسلمين فى لبوسهم" [48].
وحتى هذا العدل الذى يستهدف عدم كسر الخراج لم يكن دائم الحدوث. فعوامل من قبيل تزايد احتياجات الحكومة للانفاق على الجنود والحفاظ على مظاهر الترف، أو اقطاع المقربين أو الجنود، كثيرا ما دفعت الخلفاء إلى التعدى على الحد الأدنى لمعيشة أهل الخراج. ومن أمثلة هذا ما حدث فى عهد سليمان بن عبد الملك، حيث جاءه وإلى الخراج بمصر أسامة بن زيد قائلا : "أنى ما جئتك حتى نهكت الرعية وجهدت، فإن رأيت أن ترفق بها وترفه عنها وتخفف من خراجها ما تقوى به على عمارة بلادها وصلاح معايشها فافعله فإنه يستدرك فى العام المقبل". فقال سليمان : "هبلتك أمك، أحلب الدر فإذا انقطع فاحلب الدم والنجا" [49] فإذا ما اشتد الأمر على أهل الخراج كانوا يلجأون للثورة ضد الدولة، وسنستعرض هنا ثورات المصريين الرئيسية ضد الأمويين والعباسيين. ثار القبط ثورتهم الأولى فى علم 107 هـ، بعد أن قرر والى الخراج فيها زيادة الخراج بما يساوى خمسة بالمائة منه[50]. وكانت ثورة مصر الكبرى الثانية فى عهد المهدى واستمرت من عام 167 إلى عام 169 هـ فى الصعيد والدلتا، بسبب تشدد الوالى فى اعتصار الخراج وزيادته[51]. وتعددت ثورات العرب الذين استوطنوا منطقة الحوف الشرقى، فثاروا ثلاث مرات فى عهد الرشيد. كانت أولى ثوراتهم فى عام 178 هـ، بسبب زيادة قيمة الخراج، والثانية فى عام 186 هـ بسبب التلاعب بمسح الأرض. ويصل بهم الأمر فى عام 191 هـ إلى حد الامتناع عن أداء الخراج، وقمعت كل هذه الثورات سريعا[52]. ثم ثار عرب الحوف ثورتهم الكبرى فى عهد المأمون فى عام 214 هـ وقمعت، ولكن الثورة ما لبثت أن اشتعلت مرة أخرى فى عام 216 هـ، واشترك فيها القبط والعرب كلاهما بالوجه البحرى. ولم تهدأ الثورة إلا بعد حضور المأمون بنفسه فى عام 217 هـ[53].
وخلاصة هذا كله أن نظام الخراج يستتبع بالضرورة أن تصبح علاقة السياسة بالاقتصاد علاقة مباشرة. فمسئولية الدولة عن نظام الرى وما يستتبعها من ملكية الدولة للأرض وحصولها على الفائض الاجتماعى بواسطة جيش من الجباه، كل ذلك يحول كل احتجاج للسكان ضد العسف والنهب الاقتصادى مباشرة إلى ثورة سياسية الطابع [54]، حتى ولو كان سبب هذا العسف هو تراخى قبضة الدولة المركزية عن دواوين الولايات .. ففى كل الأحوال يأتى هذا النهب عن طريق الجباة وزبانية الدولة.
وتتجلى العلاقة المباشرة بين السياسة والاقتصاد على وجه آخر، من حيث أن الخراج هو العماد الحقيقى والرئيسى لمركزية الدولة، فمن الخراج عطاء الجند، ومنه أرزاق القضاة والعمال والولاة[55] ، وسائر الموظفين. وهذه العلاقة بدورها كان المعاصرون يدركونها فقد قال المأمون : "قد كان لأخى (الأمين) رأى لو عمل به لظفر بنا ، لو كتب لأهل خراسان وطبرستان ودنباوند أنه قد وهب لهم الخراج لسنة، لم تخل من أحد حالين : أما رددنا فعله ولم نلتفت إليه فعصانا أهل هذه البلدان ،وأما قبلناه وانفذناه، فلم نجد ما لا نعطى منه من معنا وتفرق جندنا ووهن أمرنا" [56]. ولكن الأمين كان فى شغل عن أمور الخراج بمجالس الندماء [57].
على أن أكبر تهديد يواجه نظام الخراج، هو توسع نظام الاقطاع على حسابه. وقد لجأت الدولة الإسلامية إلى الإقطاع من أجل مكافأة أنصارها وكبرائها. وكان الرسول أول من اقطع أرضا فى العصر الإسلامى، فقد أقطع – على سبيل المثال – من أرض بنى النضير – وكانت أرض خراج – الزبير بن العوام[58]. كما أعطى منها المهاجرين واثنين من الأنصار شكيا الفقر[59]. كان معيار الاقطاع إذن هو التقدير الشخصى للرسول لمصالح المجتمع الناشئ. وفى الأراضى المفتوحة كان عثمان بن عفان أول من أقطع أرض الصوافى فى العراق[60]. وأرض الصوافى هى الأرض التى كانت فى يد كسرى ومرازبته وأهل بيته، ومن قتل فى الحرب أو لحق بدار الحرب، وغير ذلك[61]. وكذلك أقطع معاوية[62] والخلفاء الأمويون أنصارهم. ومع تقدم الزمن بالدولة الأموية تخطى نظام الاقطاع الصوافى إلى أرض الخراج واستمر ذلك حتى جاء عهد المنصور العباسى، فصادر كل ذلك وأعاد أرض الخراج إلى ما كانت عليه [63]. ويبدو أن الخلفاء العباسيين الأقوياء كانوا يقطعون الأراضى البور بصفة خاصة [64]، من أجل مد العمران، وبالتالى تزايد موارد الدولة. ولذلك يستشهد أبو يوسف بما قاله عمر بن الخطاب من أن الأرض المقطعة التى لا يعمرها صاحبها لمدة ثلاث سنوات لا تكون من حقه[65]. ومن ذلك نستنتج أن الاقطاع وظيفة من حيث الجوهر، وبواسطته توكل الحكومة تعمير الأرض، وهو الواجب الموضوع على عاتقها، إلى أحد الأفراد، وهذا الاقطاع مترتب على وظيفة الشخص، أى أهميته داخل جهاز الدولة. فهو اقطاع متفرع عن سلطة الدولة، على عكس الاقطاع الأوروبى.
إذا أقطع الإمام أرضا واقعة ضمن أراضى الخراج لمقطع، فللإمام أن يفرض عليها الخراج.[66] أما إذا كانت مع أرض القطائع، فيفرض عليها العشر ونصف العشر[67] ، وإذا كانت تشرب من أنهار الخراج فللإمام أن يفرض عليها الخراج[68]. والأرجح أنه قلما كان الإمام يفرض على المقطع الخراج. نظرا لأن المقطع يتحمل مؤونة إستصلاح الأرض وتعميرها إذا كانت بورا [69]، ولأن الإقطاع إنما هو هبة من الدولة فلا يعقل أن يأخذ المقطع من المزارعين فى الأرض المقطعة خراجا ويعطيه للدولة، إذ لن يتبقى له شئ أو يلجأ لأن يحمل المزارعين ما يفوق طاقتهم.
ولما كان الإقطاع وسيلة من وسائل مكافأة الأنصار والحفاظ على ولائهم، يصعب أن نتصور ألا يكون نزع الإقطاع وسيلة للعقاب والحرمان والقضاء على نفوذ المناوئين لحكم الخليفة. ورغم تأكيدات أبو يوسف العديدة لعدم حق الخلفاء فى انتزاع إقطاعات من أقطعهم الخلفاء المهديون وتحريم ذلك[70] ، ولا نشك فى أن نكبة البرامكة، أو انتقال الحكم من الأمين للمأمون بعد حرب أهلية أو تأرجح موقف الخلفاء الأمويين بين القيسية واليمنية، تستتبع كلها نزع إقطاعات الخصوم وإعادة إقطاعها للأنصار.
ولاشك أن اتساع الثغرات التى يفتحها نظام الإقطاع فى نظام الخراج، كظاهرة مميزة لعهود تراخى قبضة الدولة وانهيار السلطة المركزية، ليس من قبيل الصدفة أو التوافق الزمنى .. إنما هو توافق ناتج عن ارتباط الأمرين ارتباط العلة بالمعلول. فانتشار نظام الإقطاع يعنى ظهور جماعات من الحائزين الأقوياء لحقوق عينية على الأرض، لهم مصالح منفصلة عن مصلحة الدولة، ويمكنهم أن يستخدموا ثرواتهم فى تحقيق مآربهم داخل جهاز الدولة بالرشوة وغيرها. ويترتب على فساد رجال الدولة وظهور هؤلاء المقطعين الأقوياء، لجوء الدولة إلى نظام القبالة لعجزها عن السيطرة على أطراف الجهاز الحكومى وإلى اضطرار حائزى أرض الخراج إلى إلجاء أرضيهم[71]. وكل هذه الظوهر تؤدى للإجهاز على مركزية الدولة، أو أضعاف العصبية بتعبير ابن خلدون.
يمكن القول أن نظام الخراج يقوم على دعامتين أساسيتين : أولاهما احتفاظ الدولة بملكية الرقبة لأرض الخراج، وثانيهما حصولها على فائض الإنتاج من هذه الأرض بواسطة موظفيها. ويستند تعميم هذا النظام وانتشاره إلى وظيفة الدولة الاقتصادية فى الإشراف على نظام الرى والإنفاق على إصلاحه وترميمه. كما يترتب على سيادة هذا النظام فى المجال الزراعى، أن يصبح هذا النظام الأساس الاقتصادى لمركزية الدولة، بينما ترتبط ظاهرة انهيار هذه المركزية بانهيار نظام الخراج لصالح نظام الإقطاع واللجوء لنظام القبالة فى جمع الخراج وتفشى الفساد فى جهاز الخراج، وانتشار ظاهرة إلجاء الأرض، وكل ذلك يعنى وقوع وظائف الدولة الاقتصادية على عاتق فئات اجتماعية أخرى لا تستمد مكانتها وثروتها من مجرد وضعها داخل جهاز الدولة.
**************************
اختلف مدلول مصطلح الخراج فى كتابات مؤرخى وفقهاء العصر الإسلامى، بل شمل الاختلاف أغلب استخدامات المعاصرين لهذا المصطلح. فقد أشير به أحيانا إلى دخل الخلافة ككل، أو دخلها من إحدى ولاياتها، واستخدمه أبو يوسف بين دفتى كتابه الشهير [1]، للإشارة إلى نظام ضريبى معين يفرض على أرض زراعية تسمى أرض الخراج، والتى تعتبر من الناحية الفقهية أرضا موقوفه على بيت المال ومملوكة للأمة الإسلامية كلها[2] ( وفى إطار هذا التعريف الأخير للمصلطح، يتناول هذا المقال موضوع الخراج).
والخراج، وفقا لهذا التعريف، قد شكل لب النظام الاقتصادى فى العصر الإسلامى، وخاصة فى عهوده المزدهرة .. حيث أنه كان النظام الرئيسى فى مجال الإنتاج الزراعى الذى كان بدوره أهم مجالات الإنتاج فى العصر الوسيط برمته . [3]يترتب على ذلك بالضرورة أن نظام الخراج كان أهم النظم الاقتصادية إطلاقا من حيث تشكيل معالم الحياة اليومية وتحديد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للغالبية العظمى من السكان المعاصرين .. وبالتالى أسهم بمختلف الطرق المباشرة وغير المباشرة فى تشكيل مجمل النظم المعاصرة الأخرى.
على أن التأريخ لنظام الخراج – على أهميته الكبرى – ُيعد مشكلة عويصة لا زالت تعترض الباحثين، نظرا لقلة اهتمام المصادر التاريخية به، واقتصار تناوله فى أغلب الاحيان على الناحية الفقهية، دون العناية بالنظم العينية لجبايته وتحديد مقداره واوجه صرفه .. وما طرأ على كل ذلك من تغييرات عبر الزمن[4]. ويمكن تتبع نشأة نظام الخراج فى عهد عمر ابن الخطاب وإرهاصاته فى عهد الرسول عن طريق كتاب البلاذرى؛ فتوح البلدان. والمقال مدين إلى أبعد الحدود للمعلومات التى أوردها ابن عبد الحكم : فتوح مصر والمغرب، فى الصفحات التى خصصها لموضوع الخراج فى مصر. كذلك أورد الجهشيارى فى كتابه : الوزراء والكتاب مادة تاريخية حول دواوين الخراج، تتميز بعموميتها وعدم تعرضها للتفاصيل والنظم العينية لدواوين الخراج. ولعل كتاب أبو يوسف الذى سبقت الإشارة إليه. يمكن أن يعد من أهم الكتب الفقهية فى أحكام الخراج، نظرا لمنزلة مؤلفه عند الخليفة العباسى "الرشيد" ونظرا لأن الكتاب قد ُصف بناء على طلب الخليفة. وتتركز أهمية كتاب ضياء الدين الريس حول الخراج والنظم المالية – بجانب جهده المحمود فى تحقيق المقاييس الإسلامية – فى جمعه لمعلومات تاريخية مختلفة تتعلق بالأوضاع السياسية والاقتصادية تمس من نواحى متعددة نظم الخراج. ولكن الكتاب فى مجموعة لم يوفق فى تحقيق الغرض الذى يدل عليه عنوانه.
وفى حدود هذه المصادر، سوف يتناول المقال مواضيعا خمسة رئيسية، وهى إرهاصات ونشأة نظام الخراج، وأسسه الاقتصادية، ونظم جبايته، ثم علاقات نظام الخراج بكل من حائزى أرض الخراج والدولة. كذلك أفردنا حيزا لنشأة نظام الإقطاع وطبيعته وعلاقته بنظام الخراج.
***********************
لم يحل إدراك المعاصرين لأسبقية نظام الخراج تاريخيا – فى دولة الفرس على الأقل[5] – على الفتوحات الإسلامية، دون تناولهم له كفرع من فروع الفقه الدينى الخاص بالمعاملات. وفى محاولتهم تكييف نظام الخراج تكييفا فقهيا، رجعوا إلى سنة الرسول وسابقات الخلفاء الراشدين. ورغم اختلاف الأهداف، لا يسعنا سوى أن نقتفى خطاهم على نفس الطريق.
كان النبى إذا فتح أرضا بإسلام أهلها دون قتال، يترك لهم الاحتفاظ بالأرض[6] ، ويفرض عليها ضريبة العشر إذا كانت تسقى بالراحة أو نصف العشر إذا كانت تسقى بآلات الرفع. [7]أما إذا فتح النبى أرضا بصلح مع أهلها من أهل الكتاب، وحتى إذا سبق الصلح حصار حربى، كانت الأرض تعد ملكا له بصفته الدينية والسياسية، وليس بصفته الشخصية. وكان الرسول أما أن يطرد أهل هذه الأرض – كأحد شروط الصلح – ويتولى زراعتها بنفسه[8] ، وخاصة إذا كانت الأرض واقعة فى متناول جماعة المسلمين والرسول، بحيث يمكن العناية بالأرض دون التخلى عن الإقامة فى المدينة ، وهى حصن الدعوة ؛ وإما أن يقر أهلها على زراعة الأرض ، فيشتمل الصلح على مقاسمة الرسول إياهم نتاج الأرض[9] ، ويسمى نصيب الرسول من هذا النتاج خراجا. كذلك كان للرسول مطلق الحرية – فى حدود الدين – فى التصرف فى هذه الأرض ومحصولاتها، فكان ينفق منها على أهله أو يقطع بعضها للمهاجرين أو غيرهم، أو ينفق من عائدها على الفقراء[10]. وتجدر الإشارة إلى أن الرسول، لأنه لا يورث، تنتقل ملكيته هذه من بعده إلى جماعة المسلمين [11]. فليست ملكيته للأرض إذن سوى شكل لملكية الدولة الإسلامية للأرض.
أما الأراضى التى فتحها الرسول عنوة، مثل أرض خيبر وأرض بنى قريظة، فكان يقسم أربعة أخماسها على الفاتحين، ويحتفظ بالخمس الباقى طبقا لحكم القرآن[12]. وإلى تلك السابقات استند الذين عارضوا ما فعله عمر بن الخطاب من وقف الأراضى المفتوحة على بيت المال مطالبين بتقسيمها[13]. ولكن يلاحظ أن تقسيم مثل هذه الأراضى قد اتخذ أحيانا منحى صوريا. وآية ذلك أن الرسول عندما فتح خيبر و وادى القرى، ترك هذه الأرض لأهلها مقابل شطر من نتاجها[14]. فالأرجح هنا أن هذا الشطر هو الذى كان يقسم وليس الأرض فى أيدى أهلها حتى لا تتشتت قوة المسلمين فى خارج المدينة. ومما يرجح هذا التعليل، أن الرسول قد قسم أرض بنى قريظة تقسيما فعليا بين الفاتحين، إذ أن هذه الأرض واقعة ضمن نطاق المدينة.
حين تم فتح الشام والسواد (العراق) فى عهد عمر بن الخطاب، قام جدل واسع حول كيفية التصرف فى هذه الأرض التى افتتحت عنوة. فقد رفض عمر تقسيم الأرض على المقاتلين كما طالب بلال وآخرون، مستندين إلى نص القرآن وسنة الرسول. واشتد الخلاف بين العشرة المبشرين بالجنة وبين المهاجرين وبعضهم البعض، فلجأ عمر إزاء ذلك إلى استشارة زعماء الأنصار لحسم الخلاف. كانت حجة عمر بن الخطاب أن هذا الفيىء ملك لكل المسلمين، فإذا ما قسمت الأرض، لن يبقى شئ للأجيال القادمة من غير أبناء الفاتحين، كما أن التقسيم سيستتبع تفرغ الفاتحين لإدارة أراضيهم الشاسعة، وبالتالى هجر الأمصار والثغور، بالإضافة إلى أن حرمان بيت المال من خراج هذه الأرض بتقسيمها، سيعجز الخلافة عن الإنفاق على الجنود لسد الثغور. وهكذا اقتنع زعماء الأنصار بأن العدول عن تطبيق نظام الخراج على الأرض المفتوحة يهدد بإستعادة أعداء الدولة الناشئة لهذه البلدان[15]. وهذا يعنى أن عمر بن الخطاب قد جعل قضية الإسلام ومركزية الدولة ونظام الخراج والعصبية العربية قضية واحدة. وتدل الحوادث على أن عمرا كان حريصا كل الحرص على توفير أسباب الحفاظ على تماسك العصبية العربية وإبقائها تحت سيطرة الخلافة فى نفس الوقت، فعمل على أن تقام الأمصار حيث يمكن أن ترعى الإبل[16] ، بقصد إبقاء نمط معيشة سكانها العرب البدوى – الرعوى – الحربى المنفصل عن نمط معيشة سكان البلاد المفتوحة، كما كان حريصا على توفير عطاء الجند وأسرهم [17]، حتى يظلوا معتمدين فى معاشهم على الدولة وحتى لا يتحولوا للزراعة والاستقرار. أما مبدأ تقسيم الفيىء الذى ورد فى القرآن فقد قصره عمر على ما يحرزه المقاتلون فى المعارك من مال أو سلاح[18]. كذلك طبق عمر نظام الخراج فى مصر[19]. وترتب على ما فعله عمر اعتماد نظام الدواوين الخاصة بالخراج، والتى ورثها العرب عن البلاد المفتوحة[20]، وإنشاء ديوان العطاء.
ترتب على تزايد أهمية نظام الخراج أن وضع الفقه الإسلامى على عاتقه مهمة التكيف مع هذا الواقع والتشريع له. ورغم المعاناة والحيرة التى لقيها الفقهاء[21] ، إلا أنهم أنجزوا مهمتهم. وصارت تشريعاتهم الاقتصادية تنزع فى الأغلب الأعم إلى الحفاظ على قوة نظام الخراج وبقائه، مقتفين أثر عمر بن الخطاب. فقد منع عمر تحويل أرض الخراج إلى أرض عشر إذا أسلم أهلها، واقتفى أثره الفقهاء واكتفوا بإلغاء الجزية على الرؤوس متعللين بأن لحظة الفتح تحديدا هى التى تحدد ما إذا كانت الأرض أرض عشر أم أرض خراج [22]. بل ويصل الأمر بأبى يوسف إلى حد منع الخلفاء من أخذ أرض الخراج من أهل الخراج[23]. وحتى بالنسبة للأراضى البور الواقعة ضمن أرض الخراج، أى فى نطاقها، يفرض الخراج عليها إذا ما استصلحت وعمرت [24]. وما من شك أن مجمل هذه الأحكام تضع قيودا متعددة على الملكية الخاصة للأرض الزراعية[25]. والأساس القانونى لحق الملكية الخاصة للأرض، ألا وهو حق وضع اليد، جرى حصره إلى حد كبير بالحكم الخاص بفرض الخراج على الأرض المستصلحة الواقعة ضمن أرض الخراج.
ان مقولة غياب الملكية الخاصة للأرض فى نطاق أرض الخراج. ليست مجرد مقولة نظرية مستندة من الفقه. فإذا ما بحثنا فى طبيعة الخراج نفسه لوجدناه مختلفا تماما عن الضريبة والزكاة. فيتضح من بعض ما أورده أبو يوسف فى كتابه[26]، أن الخراج أكبر من العشر بل والعشرين. وهذا ليس مجرد فارق كمى بل هو فارق كيفى، إذ أن ضخامة الخراج المفروض على قطعة الأرض تجعله ما يمكن أن نسميه بمصطلحات علم الاقتصاد فائض الإنتاج الاجتماعى، أى يكافئ بلغة عصرنا الضريبة والريع والربح معا. كما أن حائز أرض الخراج لا يحق له أن يمتنع عن زراعتها [27]، لأنها أرض ملك للدولة الإسلامية. ويؤكد ذلك ما ذكره ابن عبد الحكم عن نظام فرض الخراج فى مصر [28]، إذ كان يفرض على القرى جملة تبعا لمساحة كل قرية من الأرض العامرة، وتقسم هذه المساحة على الأسر فى القرية بحسب قدرتها على الفلاحة، أى بحسب ما تحوزه من قوة العمل. وما يفيض من أرض القرية مما لا يرغب سكانها فى فلاحته كان يقسم عليهم ويلزمون بزراعته. هذه الحقائق تحول دون قبول ما يذكره أبو يوسف، عن حق حائز أرض الخراج فى توريثها و بيعها[29] ، فنظرا لطبيعة الخراج باعتباره فائض الإنتاج الاجتماعى، ونظرا لكل ما سبق ، فقول أن ما يتوارث هنا هو حق الحيازة أو حق المنفعة ، وهى وراثة مشروطة بالقدرة على فلاحة الأرض وتعميرها. كذلك لا تستقيم فكرة حيازة أهل الخراج لحق الرقبة مع ما يذكره أبو يوسف عن وجوه المزارعة[30] ففيها : يكون الخراج على صاحب الأرض، أى حائزها، ويحصل الزارع على المحصول، ذلك على عكس أرض العشر بحيث يكون العشر على صاحب الزرع أو على الاثنين معا. فواضح هنا أن القيام على أرض الخراج وحيازتها واجب على الحائز أكثر منه حق له. كما يتضح أن كافة أحكام أرض الخراج مكيفة بحيث تضمن الدولة حقها فى خراج الأرض[31].
إلام يستند حق الدولة فى الحصول على فائض الإنتاج من أرض الخراج ؟ إذا ما طرحنا جانبا الأحكام الفقهية وما تقدمه من تبريرات لهذا مما سبق ذكره، سنجد الأساس الحقيقى لنظام الخراج فى نظام الرى. فالحكومة تعد مسئولة عن صيانة نظام الرى من حفر وتعميق للأنهار والترع والمصارف الرئيسية وبناء الجسور لحماية الأرض من الفيضان وتتكفل بنفقة كل ذلك فضلا عن أن جهاز الدولة هو الأداة الرئيسية والضرورية لإنجاز هذه الأعمال العامة[32]. أيضا، تعد الدولة مسئولة من حيث الإشراف والتخطيط بالنسبة لأعمال الرى المقامة على نطاق أصغر من هذا، بحيث لا تتسبب فى الإضرار بنظام الرى النهرى فى مجموعه [33]. مثل هذا الدور الجوهرى الذى تلعبه الدولة فى صيانة الشروط الأساسية للنشاط الزراعى، وهو النشاط الاقتصادى الرئيسى، يستدعى بالضرورة هيمنتها على الموارد المالية، كما يعطيها الفرصة فى استغلال سلطاتها الجوهرية الناشئة عن دورها هذا فى مد سلطانها إلى كافة المجالات الأخرى.
كانت الدولة تجبى الخراج عن طريق موظفين ينتظمون فى جهاز يسمى ديوان الخراج يرأسه والى الخراج.[34] وقد عرفت ثلاثة نظم لجباية الخراج. كان عمر بن الخطاب قد جبى خراج السواد طبقا لنظام المساحة، الذى كانت دولة فارس قد أخذت به بدءا من عهد كسرى أنو شروان. [35]وهو نظام يقوم على مسح الأرض وإحصاء الناس[36]، وتحديد الحيازات وما فيها من مزروعات فى سجلات، بحيث تتحدد قيمة الخراج تبعا لمساحة الأرض وجودتها ومدى بعدها عن السوق ونوع المحصول المزروع [37]. وفى عهد المهدى تحولت الخلافة العباسية إلى نظام المقاسمة، نظرا لشكوى الحائزين من إنخفاض أسعار المحصولات بحيث صاروا عاجزين عن أداء الخراج. ويقضى نظام المقاسمة بأن تحصل الدولة على نسبة تتراوح بين النصف والربع من المحصول تبعا لطريقة الرى[38]. لا شك أن نظام المقاسمة يحتاج إلى مسح الأرض لتحديد الحيازات ووسيلة الرى ونوع المحصول. ويشدد أبو يوسف[39] على أهمية نظام المساحة، نظرا لأنها تمنع تعدى الأقوياء على حق الضعفاء، ويترتب على ذلك العجز عن أداء الخراج، فضلا عن المساس بهيبة الدولة. ونجاح أى من هذين النظامين يرتبط أشد الأرتباط بألا يتطرق الفساد إلى جهاز الدولة وألا يتحول ولاء موظفيها، وخاصة كبارهم ممن يتولون الولاية العامة أو ولاية الخراج. لذلك ينصح أبو يوسف[40] بألا يتولى ولاية الخراج إلا من كانوا من أهل الصلاح والدين والأمانة، وأن تصرف حقوق الولاة والجنود من قبل ديوان العطاء فلا تكون لهم علاقة مباشرة بجباية الخراج من الولاية[41] ، مما يجعل من الصعب على الحاميات العسكرية الانفصال بالولاية. ويبدو أنه لنفس السبب، فصل سليمان بن عبد الملك منصب والى الخراج عن الولاية العامة فى مصر، واقتفى أثره من تلاه من خلفاء الدولتين الأموية والعباسية فى أغلب الحالات. وحرصا على عدم تفشى الفساد الإدارى، كان بعض الخلفاء الأقوياء، حين يلمس كسرا فى الخراج بسبب الظلم، يرسل من قبله من يفتش على أعمال الولاء ويقتص للرعية منهم [42].
أما النظام الثالث لجباية الخراج، فهو نظام القبالة. وفيه تعهد الحكومة – عن طريق مزاد علنى فى أغلب الأحوال – إلى أحد الأشخاص بجباية خراج دائرة أو ولاية معينة فيصير مسئولا عن توريد المبلغ الذى تعهد بدفعه للحكومة، وله أن يحصل على ما يفيض عن ذلك من نتاج الجباية. وهذا النظام من مضاره أنه يضع الحائزين تحت رحمة المتقبل الذى يلجأ عادة لاعتصار أهل الخراج من أجل زيادة أرباحه، مما يترتب عليه فرار الحائزين من الأرض أو لجوئهم للتخريب . والأرجح أن الدولة ما كانت تلجأ إلى هذا النظام إلا إذا ما تفشى الفساد فى الإدارة بنهب مستحقاتها عن طريق الموظفين.
ومع أن الدولة هى التى تحدد نظام جباية الخراج ومقداره، إلا أن سلطتها فى هذا المجال مقيدة من الناحية الموضوعية بمصلحتها فى الحفاظ لحائزى أرض الخراج على الحد الأدنى من الدخل اللازم لمعاشهم وأسرهم، وإلا "إنكسر الخراج [43] بتعبير أبو يوسف. بالإضافة إلى حماية جهاز الدولة من الفساد الإدارى ومركزة نظام الخراج، مما ذكر سابقا ، يشدد أبو يوسف على ضرورة توحيد معايير الخراج و أن يقتسم الموظفون المحصول مع الزارع مرة واحدة بعد التذرية والدرس وأن يتم الدرس بأسرع ما يمكن حتى يتاح للفلاحين أخذ نصيبهم بسرعة فلا يصابوا بالعوز أو اضراره [44]. رغم كل هذه الإجراءات كان تعذيب أهل الخراج، وبأبشع الوسائل ، شيئا معتادا فى هذا العصر[45].
والواقع أن كل هذه الإجراءات لم تستهدف بالدرجة الأولى – إذا كانت تستهدف أصلا – تحقيق العدل أو الرحمة بالرعية، وإنما كان هدفها الأساسى الحفاظ على نظام الخراج ومقداره. لذلك نجد أبو يوسف يشدد فى كل نصائحه للخليفة الرشيد على أضرار مخالفة هذه النصائح بمقدار الخراج. وعمرو بن العاص الذى عاب على خلفه فى ولاية مصر تحميل أهل الخراج فوق ما يحتملون يحدد وضع القبط الاجتماعى بأنهم خزنة العرب[46] ، ويشبه أرض مصر بالبقرة الحلوب[47] وحليبها الخراج. كذلك أمر عمر بن الخطاب بأن "يختم فى رقاب أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ولا يدعوهم يتشبهون بالمسلمين فى لبوسهم" [48].
وحتى هذا العدل الذى يستهدف عدم كسر الخراج لم يكن دائم الحدوث. فعوامل من قبيل تزايد احتياجات الحكومة للانفاق على الجنود والحفاظ على مظاهر الترف، أو اقطاع المقربين أو الجنود، كثيرا ما دفعت الخلفاء إلى التعدى على الحد الأدنى لمعيشة أهل الخراج. ومن أمثلة هذا ما حدث فى عهد سليمان بن عبد الملك، حيث جاءه وإلى الخراج بمصر أسامة بن زيد قائلا : "أنى ما جئتك حتى نهكت الرعية وجهدت، فإن رأيت أن ترفق بها وترفه عنها وتخفف من خراجها ما تقوى به على عمارة بلادها وصلاح معايشها فافعله فإنه يستدرك فى العام المقبل". فقال سليمان : "هبلتك أمك، أحلب الدر فإذا انقطع فاحلب الدم والنجا" [49] فإذا ما اشتد الأمر على أهل الخراج كانوا يلجأون للثورة ضد الدولة، وسنستعرض هنا ثورات المصريين الرئيسية ضد الأمويين والعباسيين. ثار القبط ثورتهم الأولى فى علم 107 هـ، بعد أن قرر والى الخراج فيها زيادة الخراج بما يساوى خمسة بالمائة منه[50]. وكانت ثورة مصر الكبرى الثانية فى عهد المهدى واستمرت من عام 167 إلى عام 169 هـ فى الصعيد والدلتا، بسبب تشدد الوالى فى اعتصار الخراج وزيادته[51]. وتعددت ثورات العرب الذين استوطنوا منطقة الحوف الشرقى، فثاروا ثلاث مرات فى عهد الرشيد. كانت أولى ثوراتهم فى عام 178 هـ، بسبب زيادة قيمة الخراج، والثانية فى عام 186 هـ بسبب التلاعب بمسح الأرض. ويصل بهم الأمر فى عام 191 هـ إلى حد الامتناع عن أداء الخراج، وقمعت كل هذه الثورات سريعا[52]. ثم ثار عرب الحوف ثورتهم الكبرى فى عهد المأمون فى عام 214 هـ وقمعت، ولكن الثورة ما لبثت أن اشتعلت مرة أخرى فى عام 216 هـ، واشترك فيها القبط والعرب كلاهما بالوجه البحرى. ولم تهدأ الثورة إلا بعد حضور المأمون بنفسه فى عام 217 هـ[53].
وخلاصة هذا كله أن نظام الخراج يستتبع بالضرورة أن تصبح علاقة السياسة بالاقتصاد علاقة مباشرة. فمسئولية الدولة عن نظام الرى وما يستتبعها من ملكية الدولة للأرض وحصولها على الفائض الاجتماعى بواسطة جيش من الجباه، كل ذلك يحول كل احتجاج للسكان ضد العسف والنهب الاقتصادى مباشرة إلى ثورة سياسية الطابع [54]، حتى ولو كان سبب هذا العسف هو تراخى قبضة الدولة المركزية عن دواوين الولايات .. ففى كل الأحوال يأتى هذا النهب عن طريق الجباة وزبانية الدولة.
وتتجلى العلاقة المباشرة بين السياسة والاقتصاد على وجه آخر، من حيث أن الخراج هو العماد الحقيقى والرئيسى لمركزية الدولة، فمن الخراج عطاء الجند، ومنه أرزاق القضاة والعمال والولاة[55] ، وسائر الموظفين. وهذه العلاقة بدورها كان المعاصرون يدركونها فقد قال المأمون : "قد كان لأخى (الأمين) رأى لو عمل به لظفر بنا ، لو كتب لأهل خراسان وطبرستان ودنباوند أنه قد وهب لهم الخراج لسنة، لم تخل من أحد حالين : أما رددنا فعله ولم نلتفت إليه فعصانا أهل هذه البلدان ،وأما قبلناه وانفذناه، فلم نجد ما لا نعطى منه من معنا وتفرق جندنا ووهن أمرنا" [56]. ولكن الأمين كان فى شغل عن أمور الخراج بمجالس الندماء [57].
على أن أكبر تهديد يواجه نظام الخراج، هو توسع نظام الاقطاع على حسابه. وقد لجأت الدولة الإسلامية إلى الإقطاع من أجل مكافأة أنصارها وكبرائها. وكان الرسول أول من اقطع أرضا فى العصر الإسلامى، فقد أقطع – على سبيل المثال – من أرض بنى النضير – وكانت أرض خراج – الزبير بن العوام[58]. كما أعطى منها المهاجرين واثنين من الأنصار شكيا الفقر[59]. كان معيار الاقطاع إذن هو التقدير الشخصى للرسول لمصالح المجتمع الناشئ. وفى الأراضى المفتوحة كان عثمان بن عفان أول من أقطع أرض الصوافى فى العراق[60]. وأرض الصوافى هى الأرض التى كانت فى يد كسرى ومرازبته وأهل بيته، ومن قتل فى الحرب أو لحق بدار الحرب، وغير ذلك[61]. وكذلك أقطع معاوية[62] والخلفاء الأمويون أنصارهم. ومع تقدم الزمن بالدولة الأموية تخطى نظام الاقطاع الصوافى إلى أرض الخراج واستمر ذلك حتى جاء عهد المنصور العباسى، فصادر كل ذلك وأعاد أرض الخراج إلى ما كانت عليه [63]. ويبدو أن الخلفاء العباسيين الأقوياء كانوا يقطعون الأراضى البور بصفة خاصة [64]، من أجل مد العمران، وبالتالى تزايد موارد الدولة. ولذلك يستشهد أبو يوسف بما قاله عمر بن الخطاب من أن الأرض المقطعة التى لا يعمرها صاحبها لمدة ثلاث سنوات لا تكون من حقه[65]. ومن ذلك نستنتج أن الاقطاع وظيفة من حيث الجوهر، وبواسطته توكل الحكومة تعمير الأرض، وهو الواجب الموضوع على عاتقها، إلى أحد الأفراد، وهذا الاقطاع مترتب على وظيفة الشخص، أى أهميته داخل جهاز الدولة. فهو اقطاع متفرع عن سلطة الدولة، على عكس الاقطاع الأوروبى.
إذا أقطع الإمام أرضا واقعة ضمن أراضى الخراج لمقطع، فللإمام أن يفرض عليها الخراج.[66] أما إذا كانت مع أرض القطائع، فيفرض عليها العشر ونصف العشر[67] ، وإذا كانت تشرب من أنهار الخراج فللإمام أن يفرض عليها الخراج[68]. والأرجح أنه قلما كان الإمام يفرض على المقطع الخراج. نظرا لأن المقطع يتحمل مؤونة إستصلاح الأرض وتعميرها إذا كانت بورا [69]، ولأن الإقطاع إنما هو هبة من الدولة فلا يعقل أن يأخذ المقطع من المزارعين فى الأرض المقطعة خراجا ويعطيه للدولة، إذ لن يتبقى له شئ أو يلجأ لأن يحمل المزارعين ما يفوق طاقتهم.
ولما كان الإقطاع وسيلة من وسائل مكافأة الأنصار والحفاظ على ولائهم، يصعب أن نتصور ألا يكون نزع الإقطاع وسيلة للعقاب والحرمان والقضاء على نفوذ المناوئين لحكم الخليفة. ورغم تأكيدات أبو يوسف العديدة لعدم حق الخلفاء فى انتزاع إقطاعات من أقطعهم الخلفاء المهديون وتحريم ذلك[70] ، ولا نشك فى أن نكبة البرامكة، أو انتقال الحكم من الأمين للمأمون بعد حرب أهلية أو تأرجح موقف الخلفاء الأمويين بين القيسية واليمنية، تستتبع كلها نزع إقطاعات الخصوم وإعادة إقطاعها للأنصار.
ولاشك أن اتساع الثغرات التى يفتحها نظام الإقطاع فى نظام الخراج، كظاهرة مميزة لعهود تراخى قبضة الدولة وانهيار السلطة المركزية، ليس من قبيل الصدفة أو التوافق الزمنى .. إنما هو توافق ناتج عن ارتباط الأمرين ارتباط العلة بالمعلول. فانتشار نظام الإقطاع يعنى ظهور جماعات من الحائزين الأقوياء لحقوق عينية على الأرض، لهم مصالح منفصلة عن مصلحة الدولة، ويمكنهم أن يستخدموا ثرواتهم فى تحقيق مآربهم داخل جهاز الدولة بالرشوة وغيرها. ويترتب على فساد رجال الدولة وظهور هؤلاء المقطعين الأقوياء، لجوء الدولة إلى نظام القبالة لعجزها عن السيطرة على أطراف الجهاز الحكومى وإلى اضطرار حائزى أرض الخراج إلى إلجاء أرضيهم[71]. وكل هذه الظوهر تؤدى للإجهاز على مركزية الدولة، أو أضعاف العصبية بتعبير ابن خلدون.
يمكن القول أن نظام الخراج يقوم على دعامتين أساسيتين : أولاهما احتفاظ الدولة بملكية الرقبة لأرض الخراج، وثانيهما حصولها على فائض الإنتاج من هذه الأرض بواسطة موظفيها. ويستند تعميم هذا النظام وانتشاره إلى وظيفة الدولة الاقتصادية فى الإشراف على نظام الرى والإنفاق على إصلاحه وترميمه. كما يترتب على سيادة هذا النظام فى المجال الزراعى، أن يصبح هذا النظام الأساس الاقتصادى لمركزية الدولة، بينما ترتبط ظاهرة انهيار هذه المركزية بانهيار نظام الخراج لصالح نظام الإقطاع واللجوء لنظام القبالة فى جمع الخراج وتفشى الفساد فى جهاز الخراج، وانتشار ظاهرة إلجاء الأرض، وكل ذلك يعنى وقوع وظائف الدولة الاقتصادية على عاتق فئات اجتماعية أخرى لا تستمد مكانتها وثروتها من مجرد وضعها داخل جهاز الدولة.
**************************